غزة ولبنان- المقاومة، الخسائر، المكاسب، وآفاق الصراع مع الاحتلال

المؤلف: د. سعيد الحاج10.01.2025
غزة ولبنان- المقاومة، الخسائر، المكاسب، وآفاق الصراع مع الاحتلال

في خضمّ الفواجع الإنسانية التي يتسبب بها الاحتلال الغاشم في عدوانه المتواصل على غزة، وامتداده المشين إلى لبنان، يضاف إلى ذلك الدمار الهائل الذي يلاحق المدينتين، تعود إلى الواجهة مجددًا نقاشات معمقة حول جدوى المقاومة بأشكالها الراهنة، بل ويتجاوز بعضهم ذلك إلى التّجزم المطلق بنتيجة المعركة ومآلاتها، في دعوة مبطنة للاستسلام الذليل، وهو ما يفنده التاريخ برمته والواقع الملموس والتحليل الموضوعي.

المعركة مستمرة

يكمن في هذا الطرح المذكور مغالطتان جوهريتان منهجيتان:

أولاهما أن الخسائر البشرية، على جسامتها وأهميتها القصوى، ليست المعيار الأوحد ولا المحدد الرئيس لتقييم نتائج أي نزاع مسلح. قد يصح هذا المنطق في الحروب التقليدية بين الدول ذات السيادة، فكيف الحال في المواجهة غير المتكافئة بين قوة احتلال غاشمة وحركات مقاومة باسلة، محكومة أصلًا بعدم تكافؤ موازين القوى العسكرية؟

إذ لو كانت الخسائر هي الفيصل الحاسم، لما انتصرت أي مقاومة في التاريخ الإنساني، ولما انسحب أي احتلال بغيض، ولا كان ثمة منطق أو جدوى لأي عمل مقاوم.

والثانية تتمثل في السعي المحموم لتقييم نتائج الحرب وتداعياتها المترتبة قبل أن تضع أوزارها، بل وهي مفتوحة على احتمالات وسيناريوهات متنوعة.

فعلى الرغم من مرور ما يقارب أربعة عشر شهرًا من العدوان المستمر والمجازر المروعة المتتالية في غزة الأبية، ثم في لبنان الصامد، ما زالت المقاومة الباسلة – المحاصَرة والمحدودة الإمكانات ابتداءً – شامخة وحاضرة بقوة وفاعلية ميدانية، وتكبِّدُ الاحتلال خسائر فادحة نسبيًا، رغم ما تعرضت له من ضربات جوية وبرية وخسائر موجعة على المستويَين البشري والتسليحي. بل إن منطقة جباليا الصامدة كبّدت العدو خلال ما يقرب من شهرين ضمن حملة الحصار والتجويع والتدمير الممنهج زهاء 30 جنديًا من مختلف الرتب العسكرية، على الرغم من أنه يحاصرها ويهاجمها للمرة الثالثة على التوالي.

يخبرنا التاريخ بلسان فصيح إنه يستحيل دحض مقاومة الاحتلال فكريًا، ويكاد يستعصي القضاء عليها ككيان وإطار وعنوان، لا سيما شكل المقاومة الحالي في فلسطين ولبنان، أي تلك النابتة من صميم الشعب والمتمتعة بثقته المطلقة واحتضانه العميق.

لقد أضاع العدو الصهيوني، عن سابق إصرار وتصميم، فرصًا سانحة لوقف الحرب وادعاء النصر الزائف فيها، كعملية اغتيال رئيسَي المكتب السياسي لحركة حماس، هنية ثم السنوار، أو اغتيال الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، ويبدو أنه ماضٍ في غيّه نحو حرب طويلة الأمد، وربما احتلال جديد لكل من غزة وجنوب لبنان، ما يفتح المشهد برمته على سيناريو الاستنزاف المطول، ويجعل أي حديث عن نتائج نهائية أو حتمية لهذه الحرب ضربًا من التخمين غير المستند إلى منهجيات التحليل العلمي الرصين.

المكاسب والخسائر

يتضح قصور هذا التقييم من حيث المنطق السليم في أحادية نظرته للحرب من زاويتَين: أحادية النظر لخسائر المقاومة دون إمعان النظر في المكاسب الهامة التي حققتها حتى الآن، وعلى المدى البعيد، وأحادية النظر لخسائرها – ومن خلفها الفلسطينيون واللبنانيون – دون إيلاء الاهتمام الكافي لخسائر عدوّها المتغطرس.

في المقام الأوّل، تكبدت المقاومة الفلسطينية خسائر جمة على صعيد القيادات الميدانية والمقاتلين الأشداء والإمكانات المتاحة، واستطاع الاحتلال الغاشم التقدم والتموضع في أغلب مناطق غزة الصامدة ومساحات معينة في الجنوب اللبناني، كما ارتقى إلى العلا عشرات الآلاف من الشهداء الأبرار، وأكثر من ضعفهم من الجرحى والمصابين، فضلًا عن الدمار الشامل الذي طال الأبنية والمنازل والبنى التحتية الحيوية وكل المرافق الضرورية.

كل ذلك صحيح ومهمّ في صلب المعادلة المحتدمة وفادح وصعب على النفس البشرية، ولكنه ليس المشهد الكامل وبالتالي لا يجوز التقييم على أساسه وحده.

في المقابل، فقد حققت عملية "طوفان الأقصى" البطولية في يومها الأول مكتسبات إستراتيجية عظيمة، عزَّزها استمرار المقاومة الشرسة حتى يومنا هذا، وتوسّع نطاق المعركة ليشمل لبنان الأبي. هذه المكاسب الإستراتيجية، التي لم تنل منها حرب الإبادة والتدمير الشامل المقصودة لذاتها الكثير، تمسّ بشكل مباشر وعميق الركائز والأسس التي قامت عليها دولة الاحتلال المزعومة، وبالتالي تهدد مستقبلها الوجودي.

فاليوم، لم تعد "إسرائيل" ملاذ الرفاهية الموعود به يهود العالم قاطبة، حيث غادرها منذ بداية الحرب وحتى شهر أغسطس/ آب الماضي وَفق صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية زهاء مليون شخص، وهو رقْم ضخم بكل المقاييس نسبة لعدد السكان الأصليين.

كما كشف استطلاع رأي حديث أن 40% من "الإسرائيليين" يفكرون جدياً في الهجرة المعاكسة، وأن 59% منهم فكّروا ملياً في التوجّه إلى السفارات الأجنبية لتقديم طلب أو الاستفسار عن كيفية الحصول على جنسية أجنبية، وأن 78% من العائلات أيدت بقوة فكرة سفر أبنائها إلى الخارج بحثاً عن مستقبل أفضل.

يكمن جزء كبير من أسباب هذا التوجه المحموم في الشعور المتزايد بفقدان الأمن الشخصي، وتراجع الثقة المتآكلة بالمؤسّسة العسكرية والأمنية "الإسرائيلية" المهترئة، التي أثبتت عملية الطوفان المبارك قصورها الفاضح وفشلها الذريع في توقّع الهجوم المباغت، ثم في حماية المجتمع والجنود من تبعاته الوخيمة.

ولعلَّ أحد أهم دوافع المجازر المستمرة بشكل غير مفهوم من الناحية الإستراتيجية أحيانًا هو محاولة يائسة لاستعادة الثقة المفقودة بوتيرة الدماء المسفوكة ظلماً وعدواناً، فضلًا عن الانتقام الأعمى من هذا الأثر الإستراتيجي المدوي.

لقد تآكلت نظرية الردع "الإٍسرائيلية" المزعومة، وما زالت تأثيرات ذلك تتفاعل بقوة مع استمرار استهداف دولة الاحتلال من الأراضي اللبنانية، واليمنية، والعراقية، والجولات المتصاعدة من الاستهداف المتبادل مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فضلًا عن الصمود الأسطوري للمقاومة في المعارك البرية الضارية في كل من غزة ولبنان.

ومن المكاسب بعيدة المدى التي لا ينبغي الاستهانة بها خسارة الاحتلال لمعركة الرواية الإعلامية والصورة الذهنية، بحيث لم تعد السردية "الإسرائيلية" الزائفة هي الصوت الوحيد المسموع في الغرب، بل تتحدى ذلك اليوم الرواية الفلسطينية الحقيقية حول الإبادة الجماعية الممنهجة والتهجير القسري المتواصل والتطهير العرقي البشع (الذي حدث في عام 1948 وتكرر بصورة مماثلة في هذه الحرب الشعواء) على ألسنة غربية منصفة وليست فقط فلسطينية.

في استطلاع رأي صادم أجري بين اليهود الأميركيين ونشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، انتقد 42% منهم ممارسات دولة الاحتلال الإجرامية، وأيد 37% من مراهقيهم حركة حماس (وليس فقط فلسطين)، وهي نسبة ارتفعت بشكل ملحوظ إلى 60% عند احتساب الفئة العمرية 14 عامًا، وهي أرقام واضحة الدلالة حول الصورة الذهنية المتغيرة عنها عالميًا.

كما تجدر الإشارة إلى أن من الخسائر الفادحة التي مني بها الاحتلال القرار الابتدائي الصادر عن محكمة العدل الدولية بأن ما يرتكبه الاحتلال من جرائم حرب في غزة قد يرقى إلى توصيف الإبادة الجماعية، واستمرار المحاكمة على هذا الأساس، ثم قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار أوامر توقيف بحق كل من نتنياهو وغالانت، بحيث يدعم ذلك الحق الفلسطيني من حيث المبدأ ويُعدُّ على المستوى العملي الواقعي ملاحقة قانونية وسُبّةً تاريخية، سيلازمان "إسرائيل" دولةً وقادة لسنوات طويلة قادمة، ويهددان الأسس التي قامت عليها، وأهمها المظلومية التاريخية المزعومة وحصرية الإبادة.

خسائر الاحتلال

دأبت "إسرائيل" في جميع حروبها ومواجهاتها السابقة مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية الباسلة على إخفاء خسائرها الحقيقية والتقليل من شأنها خلال فترة الحرب، ثم الإعلان عنها بعد انتهائها، وأحيانًا بعد مرور سنوات طويلة.

ورغم ذلك، فإن ما أعلنه الاحتلال حتى اللحظة الراهنة من خسائر بشرية ومادية له في هذه الحرب يمثل رقمًا كبيرًا بالنظر إلى عدد السكان المحدود، ثم عدد أفراد الجيش النظامي، ثم قدرته على تحمل المزيد من الخسائر، رغم أنها ارتفعت بشكل ملحوظ في هذه الحرب المستمرة.

تتحدث الأوساط الرسمية "الإسرائيلية" عن مصرع ما يقرب من 2000 قتيل، منهم 794 جنديًا وضابطًا منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، 370 منهم لقوا حتفهم في المواجهات البرية الضارية في قطاع غزة وحده، وعن إصابة 5346 جنديًا آخر، غالبيتهم الساحقة أصيبوا بجروح متفاوتة الخطورة في غزة المنكوبة كذلك.

وبينما تشير بعض التقارير الموثوقة إلى استقبال أقسام الطوارئ في المستشفيات "الإسرائيلية" زهاء 12 ألف جندي، تؤكد مصادر مطلعة في جيش الاحتلال وجود نقص حاد يقدر بـ 7500 جندي، فضلًا عن التعبير العلني المتزايد عن حالات التعب والإرهاق والتمرد ورفض الخدمة العسكرية أو العودة إليها.

هذه الخسائر المرشحة للارتفاع بشكل دائم وأحيانًا متسارع، في ظل استمرار العمليات البرية في غزة وجنوب لبنان، والبسالة الملحوظة في أداء المقاومتين، تؤكد أن النظر إلى خسائرهما دون وضع خسائر الاحتلال المعلنة والحقيقية، فضلًا عن الخسائر المتوقعة في المستقبل القريب، في الحسبان ما هو إلا نظرة أحادية الجانب لا توصل إلى نتائج موضوعية ولا يبنى عليها تقييم سليم.

في الختام، مثلت الحرب الحالية كسرًا للعديد من المفاهيم الخاطئة المتعلقة بحروب دولة الاحتلال المزعومة، مثل عدم القدرة على تحمل الحروب الطويلة والخسائر الكبيرة وعدد الأسرى المرتفع، لكنها حرب ستتوقف يومًا ما لتنكشف معظم أو كل جوانبها الخفية، وتنجلي الآثار المترتبة عليها على المديين القريب والبعيد، وستتضح حينها أكثر التداعيات الإستراتيجية الوخيمة على دولة الاحتلال، رغم الثمن الباهظ الذي دفعه شعبنا الأبي في كل من فلسطين ولبنان.

إن استمرار خطط الاحتلال العدوانية بخصوص كل من غزة ولبنان يشير بوضوح إلى حالة استنزاف مستمرة، وإلى أن الحسم العسكري بكسر شوكة المقاومة الفلسطينية واللبنانية وبالتالي تحقيق انتصار حاسم للاحتلال أمر غير مرجح على الإطلاق، ما يبقي الصمود الأسطوري واستنزاف قدرات الاحتلال الغاشم هو الخيار الأمثل والأقل ضررًا، مقارنة مع الاستسلام الذليل وإطلاق يده الآثمة بالكامل ضد فلسطين ولبنان (وربما المنطقة بأسرها) أرضًا وشعبًا ومقاومة ومستقبلًا.

وعليه، قد يصل أكثر المتشائمين الآن يومًا ما إلى قناعة راسخة مفادها أن طوفان الأقصى البطولي كان فعلًا إحدى المحطات الفارقة في طريق التحرير المنشود، وربما المحطة الأولى الحقيقية في مسار إنهاء الاحتلال البغيض إلى الأبد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة